الفاصولياء.

 الفاصولياء

أنعصرُ المناشف لنغسل أيدينا؟ تجيب أمي نعمْ، الوضوء بالماء قبل الصلاةِ واجب وإن كان الماء شحيحاً.

كيف أجرؤ على إخبار أمي أن المناشف قد جفت بين يديّ ولا وضوء بعد الآن؟ فالدماء التي سُكبت من فمي كانت بالسخونة الكافية التي تجفف وجه أمي والمنشفة وتكسر وجوب الصلاة، فلا فائدة للصلاة لي بعد الآن سوى الصلاةِ علي، تُرى هل يحاسب الله الشهداء إن قاموا بالصلواتِ كلها قبل انتزاع أرواحهم قسراً نحو السماء؟

أوْمن أن الشهداءَ وحدهم من يعيدون تدوير ذاكرتهم مرةً أخرى بعد الموت، وأنا بدوري الآن أفعل المثيل.

~

لا صباح ولا خير! الساعة الثالثة عصراً، هل يحملُ هذا الكوكب امرأة كسول بقدرك؟ 

ماما، أتعلمين متى يموت الانسان؟ لا، لذا أتركيني أنام لأن النوم في القبر لا حلمٌ يراوده.

تسيل الدماء من أصابعي المقضومة ندماً كلما تراودني هذه الذكرى، أكنتُ أعلم أن عقارب الساعة لن تتعب نفسها بالتحركِ قليلاً حتى أسمع صوت قصفٍ مباغتٍ وجديد، يعلم هو أين وقع، ولكنه لا يعلم على ابن من، وعلى بيت من، وعلى دمية من ولا أنا حتى أعلم هذه التفاصيل، ولكن الصاروخ لا تهمه هذه التفاصيل بقدر ما أنا أفعل وعلى الرغم من ذلك فقد فاقني بأشواطٍ كثيرة وبقيتُ أنا أشعر برغبة القيء في أمعائي كما لو أنني أرى مذبح إنسان ما أمامي، استبق أحداث الموت وكأنها تقليدٌ ملازم لكل صوتٍ دويّ، حتى رائحة المدينة تتغير حينما يرفرف صاروخ ما فوق بيتِ غزي ألن تتحرك مشاعري في هذا السياقِ أيضاً؟

تُنزع الطمأنينة من قلب أمي كما يغرس الخوف في قلبي في حينٍ واحد، تقول نهاية: لملمي أغراضكْ، واحرصي على وضع الكثير من الملابس الشتوية، البردُ بدأ يطوق هذه المدينة ويشد الخِناق عليها.

ولأنني فتاة ترى بأمها الكمال واللاإخطاء، سمعت كلامها، لبست صوفاً سميكاً في صيفٍ حارقٍ لا يرحم، ولحسن الحظ، لم أشعر بالبردِ حتى الآن! 

ننزل إلى ديوانِ البيت، ساحة يجتمع فيها أفراد العائلة الممتدة في الأفراح، كم أشعر بسوء الموقف وسخرية القدر، كيف تتحولُ ذكرياتٍ مليئة بالحُب وعقود الزواج والصُلحة وحفلات النساء إلى ملجأ تتراوح فيه الاحتمالات ما بين الخروج منه مساءً للصعودِ إلى بيت أبي وبين البقاء في الديوان بجسدٍ لا يتنفس يمتد تحت كرسيٍ اعتاد جدي الجلوس عليه بفخر، ترتعش التوقعات في عقلي كما ترتعش رزان في حضنيَ الآن، تمر الساعات الأولى بهدوءٍ مريب مليءٍ بالحمص والزيت وقبلات أبي على رأسي مردداً في كل قبلة، نامي الآن، موسم البرد على وشكِ البدء.

لم أفهم عليه ولا على أمي، كيف ينبت البردُ من أجزاء صيفِ هذه المدينة، كيف تظهر خصلُ الظلام بعد نورٍ لا يندمس؟ 

احتضن رزان وأنام، يلتحم خدانا في خدٍ واحد، وأحلم كما تحلمُ هيَ

في الساعة الأولى: أرى زوجة عمي وأمي تطبخان الفاصوليا، أو كما تقول رزان "فاشوليا"، أشعر بالغضب! كم أكره الفاشوليا! وكم تحبها رزان!

في الساعة الثانية: أبدأ في وضع معلقةٍ من الأرز والفاصوليا في فمي مرة، وفي فاه رزان المنشي بطعم الفاصوليا اللذيذ مرة أخرى 

في الساعة الثالثة: أتذمرُ من ضخامة عدد الصحون وأقول لأمي: هل سأقوم بتنظيف كل هذا لوحدي؟ متى استعبدتم الناس وقد خلقتهم أمهاتهم أحراراً يا ماما!

في الساعة الرابعة: تيقظني أمي كي أصلي، ولكن، تعبير غريب منقوش على وجه هذه المرأة! 

أقول: "ماما، ما بك؟" 

تقول: "قد نفذت المياه من هذه العمارة كلها، لا ماء ولا تراب للوضوء، هاتي المناشف الباردة لنعصرها في دلو"

أقول: أنعصرُ المناشف لنغسل أيدينا؟

تقول أمي: نعمْ، الوضوء بالماء قبل الصلاةِ واجب وإن كان الماء شحيحاً.

أقوم أنا، أعانني الله، بإحضار المناشف المبتلة كلها، وأحضر دلواً، أضغط تارة من هنا، وينسكب ماء في الدلو، وأسمع صوت صراخٍ من هناك، تصرخ أمي، تصرخ نهاية وتقول إلى الديوان، إلى الديوان، إلى الديوان!

أحمل المناشفَ، وأختفي في السراب.

تستيقظ رزان المسكينة من الحلم وهي تبكي، وتستيقظ العائلة كلها على هواها، لا يلبث المحيط أن يهدأ حتى يتسلل البرد، وتقول أمي: أترتدون الصوف؟ أردد أنا بأنه لا فائدة لذلك، البرد يقيمُ في قلبي، جسدي يحترق أما قلبي فقد أصبح كرة ثلجية بالفعل.

والعنصر الجديد في هذه الرحلة كانت أذناي ويداي، فبشكلٍ لا إراديّ، وضعت يداي على أذنيّ وبدأت بالترديد: أريد الفاصوليا، أريد أن أطعم رزان، أريد أن أنظف صحوناً كثيرة، أريد أن أعصر المناشف كلها، لا أريد الدوي، لا أريد الدوي، لا أريد الموت!

أختبئ  وراء كرسي جدي المعبق بالفخر، أضع أذن رزان على قلبي، وأتسائل: هل سيحاسبني الله على الصلوات التي لم أقم بها؟ 

أما الآن، وبعد أن أخذت روحي قسراً إلى السماء، أتسائل مرة أخرى بصيغةٍ جديدة: أترى من اجتاز الآخر سرعةً؟ هل استطاعت تساؤلاتي أن تلمس عرش الله قبل أن يلمسني الصاروخ، يبقى تساؤلاً، وتبقى الفاصوليا المشتهاة للمرة الأخيرة هيَ حلمٌ أُخذ قسراً.


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

ملوخية مع أرز.

إنطوانيت الميتة، إنطوانيت الحيّة

نابلس وعبود وأنا.