ملوخية مع أرز.

 ملوخية مع أرز


قرصت شمسُ الظهيرة الحارقة مشاعري وهيجتها مثلما تفعل نبتة القرّاص حينما تلعق ساقيّ، وأخذت تلك المشاعر تداعب كل مركزِ إحساسٍ في جسدي مداعبة مزعجة تستفزُّ الانسان وتخرجه عن عقله حتى جعلتني كلما أمرُّ بجانب شيءٍ ما إما أن أبغضه أو لا أعطيه نظرتي حتى.

وبدأت أخرج أنفاساً ثقيلة ومستعرّة كالثور الهائج، فقد كانت الشمس قاتلة ولم تكتفي البتة في إزالة كحلتي وصبّ عرقي فحسب إنما أخذت تركزّ أشعتها على وجهي حتى أن منتجات تفتيح البشرة الغالية فقدت قيمتها تماماً وكل العلاج الذي بذلته من أجل الحفاظ على لوني القمحي باءت بالفشل، واقتنعت أنني سأصل إلى الصالون بلونٍ حنطي محروق كما لو أنني جلست عاريةً تماماً طوال نهار كامل على شاطئِ بحر يافا، وآمنت أن هذا اليوم لن يسوء أكثر حتى طلعتُ على صخرةٍ عاليةٍ، وإذ بي أسمع بدلاً من طقطقة كعبي  صوت خلعٍ عالٍ، كان مسمار الكعب قد انكسر!

امتلكت ردة فعلٍ باردة بادئَ الأمر لكنني سرعان ما أدركت حجم مصيبتي، كيف لي أن أعود إلى البيت الآن وقد قطعت مسافة طويلة مشياً، حتى أنه ليس لدي فرصة في التغيْب وإلا سيظن فيْصل أنني أخجل منه بعد أن اعترفت له بحبّي وصدّني، وليس لدي فرصة في نفس الوقت بالمضي قدماً وأنا عارية القدمين وأيضاً كيف لي أن أدخل إلى هناك بكعبٍ مكسور سيعيب أناقتي بالتأكيد وسيجعل فيصل يحمد الله على رفضه لي.

ولكنني قررت المشي، وخلعت الكعب من قدميّ واخترت أن أسير حافية، ولم يشغل عقلي آنذاك سخونة الرمال التي أمشي عليها قدر ما شغل عقلي كيف سأدخل إلى الصالون بهذا الكعب المكسور، فخطر لي حينها أن أخلع مسمار الكعب وأن أجعله شبيه الحفايّة، إلّا أنه سيبقى رقيقاً من الأسفل لذا لن أرتديه إلا حينما أصل وإلا سيتمزق تماماً.

ولما شارفت على الوصول، ورأيت الباب على بعدِ عشرة أمتار مني فقط، وقفت بجانب سيارة وركنت ذراعي على ظهرها، فيما أشغلت ذراعي الأخرى بتناول الحفايّة في قدمي، ولاحظت عندما نظرت إلى المرآة أن كحلتي قد زالت فأخرجت قلم الكحلة من الشنطة وعدت لأكحل عيناي من جديد، ووجدت أن شعري قد اهتاج فوظبته بالمشط الصغير الذي أملك، ورأيت أن فستاني قد تجعّد فأخذت أشده للأسفل مرةً ثم إلى الأعلى مرةً أخرى حتى لا تتضح فتحة صدري وعندما أخذت أشرف على اللمسات الأخيرة في شكلي، مرّ فيصل بجانبي حيث كان قد وصل، فارتعبت، خفت أن يكون قد رآني أسير حافيةً فتوقف ليرى باقي ما فعلت، ولكنه مرّ بوجهٍ ثابتٍ دون أن يلقيَ السلام منعاً للحرج بيننا، فتبعته حتى دخلنا أنا وهو الصالون بوقتٍ واحد.

أخذت أسلم على الجميع بهدوء، كان عليّ أن ألتزم بالأدب والحشمة في مكانٍ يهيمن عليه الرجال ولا يوجد به إلا امرأتان فقط -أنا والسيدة حفيظة التي تقدم القهوة- وكان علينا في ذاك الصالون أن نقرأ الشعر والنثر والسياسة والتاريخ ونتناقش فيهم جميعاً، حتى قاطع فيصل الجلسة الهادئة وقال: أقرأتم لنزار قباني آخر فترة؟ ولم يتركنا نجاوب على سؤاله حتى تمتم وقال: 

قاتلتي، ترقص حافية القدمين..

ورفع صوته وأعاد قول عبارة "ترقص حافية القدمين" محدقاً بي، حينها علمت أنه رآني، فتسللت إلى الشرفة لأستجمع نفسي وتماسكي، وإذ بي أسمع صوتاً يقطع محاولاتي الفاشلة ويقول: لمّ كنتِ تمشين حافية؟

فوضعت يدي على عمود الحديد وجاوبته بتماسكٍ زائف: كُسِر كعبي، كان شكلي مضحكاً أعلم، رجاءً تناسى الذي شاهدت!

فضحك وقال: لستُ بصدد أن أخلق جليلة التي تعجب فيصل، ولكن صدقيني، أن أراكِ على طبيعتك الأنثوية تلك كان مغرياً أكثر من أن أراكي تعلمين في السياسةِ أكثر من الجميع هنا.

فوضعت ذراعيّ فوق بعضهما البعض وقلت: إذن أنتَ من الرجال الذين ينادون بتثقيف المرأة ثم يضعونها في قائمة العوانس لأنهم لن يتزوجوا إلا تلك التقليدية التي لا تناطحهم بالذكاء والمعرفة؟

وعاد يضحك ثانيةً وردّ: لا، أنا لست منهم، إنما أنا من الرجال الذين يحبون أن تكون امرأتهم ذكيةً ولكن ألّا تكون مغرورة بذكائها كفاية حدّ قتل دور الرجل في حياتها، أتساءلتِ يوماً لم يحتفظ الرجل المثقف المتنور العصريّ بدوره التقليديّ كرجلٍ في المجتمع حيث أنه يبقى هو نفسه التقليدي الذي يعمل لأجل أن ينفق على أسرته، يخاف ويغار على امرأته من الدنيا، يفتح لها باب السيارة، يدفع عنها ضريبة المطعم، ويبقى يحب أن ترقص له، أن تتدلل له، أن تطعمه وأن تطيعه أحياناً مثل كل الرجال التقليديين!

فقلت: تأخرنا عن الجميع يا فيصل، لا أود أن نفهم بشكلٍ غير لائق.

وحينما انتهى اللقاء وعدت إلى البيت، أخذت أصرخ أمام أمي وأقول: نحن من عقدّ الأمر، كانت المرأة تتمتع بكسلٍ مختومٍ بجرعة ضئيلة من النشاط على مدار اليوم، وإن أصابها نوع من الهموم العظيمة كانت تقتصر على مثل تلك التي تزورها عند الستين حينما يرتكب إبنها الذي في الشباب فعلةً مشينة ما، ولكننا نادينا بتعليمها، وتثقيفها، وها أنا اليوم يكسرُ كعبي للمرة الألف بسبب السير في طريقٍ وعرٍ لأصل إلى الصالون الثقافيّ، ويُكسر قلبي للمرة الألف بسبب وعورة قلوب الرجال المثقفين، لربما خُلِق العلم والتنوير والثقافة من أجل الرجل فعلاً، والله لم يسبق لي من قبل أن سمعت رجلاً يتذمر بسبب انكسار كعبه.. أو انزلاق كحلته على الجفن السفليّ..أو حتى قلقه على لون بشرته الذي سيغمق بفعل شمس الصيف!

~

جاء يوم الثلاثاء، يوم موعد لقاء الصالون، لم أختر أن أكون مجنونةً مثلما قررت اليوم، سحبت صحناً من ورق العنب المطبوخ في البيت وغلفته، ولمّا وصل فيصل كنت حينها أدور على كل الحاضرين أطعمهم من ورق العنب وأكذب: أنا من طبخته.

ولمّا وصلت إلى فيصل قلت له: تفضل.

وبينما كان يمضغ ورق العنب وضع يده على فمه كي يتكلم وقال: أتعلمين، الطريق الأقصر لقلب الرجل هو معدته.

فامتعضت وهمست له: فيصل، لم أعد أريدك، فلا تحرجني بتلميحاتك هذه، كما أن الطعام ليس كل شيء!

وبدأ يجادلني إذ قال: ليس الطعام هو كل شيء..نعم! بل الحنان هو كل شيء، المرأة الحنون هي التي تطبخ وتطعم الذين تحبهم.

فناولته صحن الورق متعمدةً كي يأكله ثم يلحقني إلى المطبخ ليضعه هناك ولما اقترب من المطبخ وأحسست أنه قريب، قلت لسيدة حفيظة: سيدة حفيظة، طبخت في الأمس ملوخية، بتاكلي أصابع إيديكي من وراها

 -قلتُ وأنا أعلم أن فيصل يعشق الملوخية. 

وحينما انتهى اللقاء، تبعني فيصل وقال: أودُّ لو أتمشى معك.

وبعد مرور عدة دقائق، سألني: كم حبة قرنفل وضعتِ في الطنجرة؟ 

فرددت: أربعة على الأغلب!

فضحك وقال: كنت أعلم أنكِ لا تدرين عن الطبخ شيئاً، القرنفل ليس جزءاً من مكونات طبيخ الملوخية حتى.

وانحرجت، ولم أجد أي ردٍ يسعفني، فسأل: لمَ تكذبين؟

أردت أن أعجبك، وأن أثبت لكَ أنني عادية!

وقال: هذه مشكلة النساء المثقفات، حينما يتثقفن يبدأن في التخلي عن دورهم الاجتماعي واعتباره دوراً مهيناً لهم، وكأن الطبخ والخدمة -على سبيل المثال- إهانة، بينما الرجال المثقفون وإن كانوا يعملون في تنظيفِ الأحذية يشعرون بالفخر حينما يتمّون دورهم التقليدي في توفير الأمان الماديّ لأسرهم، النساء يعقدنّ كل شيء!


كانت كلمات فيصل قد أثرت بي بالفعل، ولما عدتُ إلى المنزل نادى عليّ أبي وقال: جليلة، لتعدّي فنجانين من القهوة، واحد لي، وواحد لكِ

فتفاجئت وقلت: أين بهيرة؟ هي المسؤولة عن الطبخ والخدمة!

فردّ أبي: في إجازة.

فقلت له: سأعد القهوة في الحال إذن.

وبدأت أعتصر دماغي من أجل تذكر كيف تُصنع القهوة، معلقة أم معلقتان؟ دعيها معلقتان، لكن أأضيفها على الماء البارد في الغلاية أم على الماء المغليّ لتفورَ حينما أضع القهوة؟ واخترت أن أضعها على الماء المغليّ كي لا أتشتت عنها لأنني إذا وضعتها على البارد ستفسد نظافة المطبخ.

وسكبتها في فنجانين، ولم ألبث أن أسعد بهما حتى طقَّ إحداهما إلى نصفين وأخذت أظن أن العفاريت تتسلى معي وتريد أن ترعبني، لكنني علمت لاحقاً أن الفنجان بارد بارد، والقهوة ساخنة ساخنة 

فلا يجب أن أضع ساخناً ساخناً على باردٍ باردٍ.

يسعدك يابا، أزكى قهوة بالعالم -قال أبي وهو يرتشف القهوة.

ففرحت، أحسست طعماً من السعادة الجديد، اعتدت أن أحصل مديحاً على كتابتي، دراستي، شهاداتي، ولكن على شيءٍ فعلته في المطبخ؟ هذا شعورٌ جديد! 

إذن هذا هو طعم الحنان الذي يتكلم عنه فيصل، أن أحس أنني أعطي مقابلاً! أي أن أشكّل الحب الذي مُلِأَ به قلبي تجاه المقربين لدي إلى طعامٍ يدفئ أمعائهم الفارغة! الله!

كان قد مرّ أسبوعان مذ رأيت فيصل آخر مرة، إذ أنني لم أستطع أن أستجمع شجاعتي لأراه فانشغلت بشعور الحرج الناتج عن الموقف الأخير بيننا، كما أنني قضيت معظم وقتي مع الهوس الجديد الذي ملأ عالمي: الطبخ!

بهيرة، ماذا سنصنع اليوم على الغداء؟ -سألتها.

ضحكت وقالت: سنصنع؟ أتذكرين حينما كنتِ تقولين ماذا ستصنعين، ما أحلى التغيير الذي صنعتِه، عموماً يا ست اليوم هنعمل بصارة إن شاء الله.

وتجعّد وجهي، إذ أنني لا أحب البصارة ولن أشارك في طبخها البتة، وقلت لها: معلش بهيرة، لا أحبها، ولن أتعلمها، إن أردتِ مساعدة ما فقط نادني.

وتمتمت بيني وبين نفسي: استيقظت اليوم وأنا مشتاقة لفيصل، وقلت أنسى الشوق وأنا أطبخ فقفزت لي طبخة مثل البصارة، يا له من حظ!

ولما كنت أتعثر بتلافيف حظي التعيس، خطر على بالي فكرة!

كانت الساعة الواحدة ظهراً، وكان لقاء الثلاثاء يبدأ الساعة الرابعة عصراً، فسارعت بكتابةِ بريد لجميع الأعضاء: 

"أتمنى حضوركم اليوم بأمعاءٍ فارغة، سأطبخ ملوخية وأرز مع الست حفيظة غداء للجميع".

ذهبت إلى سيدة حفيظة بباقة الملوخية، أمسكت يدها لننزل إلى السوق فنجيء بالرز والدجاج والفلفل وغيره من اللوازم، ولما انتهينا ورجعنا إلى الصالون، كان هناك!

اتخذ فيصل من الكنبة الواسعة مقعداً، ولم أقل له مرحباً قبل أن أهرع لأقرأ الساعة، كانت الساعة الواحدة والنصف، ماذا يفعل هنا مبكراً؟

سألته: الساعة الواحدة والنصف، ماذا تفعل هنا؟

ردَّ وقال: ماذا ترينني أفعل؟ أقرأ مديح الظل العالي لدرويش!

واضحٌ أنه أراد التملّص من الجواب والمماطلة وكنت أنا حينها أكسل من أن أعاود السؤال بشكل أوضح، فقلت له: استمتع.

دخلت إلى المطبخ مع حفيظة، أخذت هي تنظف الدجاج وأخذت أنا ألقط الملوخية سريعاً كي أغسلها وأجففها، حملت شعري في كومةٍ واحدة، رفعت الفستان إلى الأعلى قليلاً وربطته، شمّرت يديّ، وتابعت التلقيط

يبدو أن فيصل انتقى مكان جلوسه بعناية، فلا أكاد أنشغل مع التلقيط لدقائق فأنساه حتى فجأة أذكره.. لأراه يحدّق بي! فأشيح بنظري عنه ويشيح هو بدوره نظره عني..

-فيصل، ناولني قطعة القماش الممتدة على الكنبة التي أمامك.

وناولني إياها، فوضعتها في مكانٍ ترقص فوقه أشعة الشمس بشكلٍ مستمر، وأخذت أنثر أوراق الملوخية الخضراء عليها، وكلما أردت الابتعاد لفعل شيءٍ آخر، كانت رائحة أوراق الملوخية النضرة تشدّني إليها

رائحتها جميلة، صحيح؟ -قال فيصل.

لابدّ أنك علقت في مقطع: "بحرٌ لأيلولَ الجديد..خريفُنا يدنو من الأبواب" لم أركَ قلبت صفحةً واحدة منذ صرخت بوجهي: "ماذا ترينني أفعل؟"، لابدّ أن تركز سيّد فيصل، الملوخية ليست بهذه الأهمية!

~

كانت الملوخية على وشك الانتهاء، وكان الأرز قد نضج، وكان الصالون قد امتلأ بزملائه.

وجعلت أسكب الملوخية مع الأرز في طبقٍ واحد، وقال فيصل: كم حبّة قرنفل تحتاج الملوخية؟

رددت: ولا واحدة تحتاج، إنما أنت تحتاج شوطاً كاملاً من أجل أن تتعلم أنني لا أحب السخرية!

كيف تعلمتِ صنعها، إذن؟ -سأل.

سهلة، لا تحتاج الكثير، ولا حبة قرنفل! -رددت بضحك.

فضحك فيصل، وأخذ يتناول الصحون إلى الصالة، ولمّا تأكدت أن الجميع بدأ في الأكل، جلست آكل وأستمتع بسماع عبارات مثل: لذيذة جداً، لم نأكلها منذ زمن، ألذ من خاصّة أمي!

وحينما انتهى الجميع سحبوا أطباقهم الخاصّة بهم إلى المطبخ كي أنظف أنا والسيّدة حفيظة، ولمّا انتهينا من التنظيف، كان الصالون قد فرغ من كلّ الزملاء، حتّى تنفست الصعداء من التعب والمشقة التي حددت تفاصيل هذا اليوم، وعندما نويتُ الخروج من المطبخ أنا والسيّدة حفيظة، ظهر فيصل، تأسف وقال: نسيت أن أعطيك صحني!

فتنهدت بغضب خفيّ، وسألته: لذيذة؟

وردّ: جداً!

ولمّا أخذت أرفع الصحن، كان تحته ورقة مكتوبٌ بها:

"هل كان من حقِّي عليكِ الموتُ فيكِ

لكي تصيري مريماً 

وأصيرُ ناي؟"

-مديح الظل العالي، درويش.

واستغربت، إذ لم أفهم لمَ يستخدم فيصل قصيدة تتكلم عن الحرب والوطن ليوصل رسالةً إليّ، ولمّا وصلت إلى المنزل وأخذت أتفحص الورقة، وجدت ملاحظة مكتوبةً بخطٍ صغير جداً: "كانت لذيذة، كنتِ لذيذة!"

وفهمتُ حينها ماذا قصد، لم يكن يقصد الموت بمعنى الموت، إنما قصد أنه أجبرَني أن أفعل الذي جعله يموتُ فيّ..

وكان هذا..حقاً..مرضياً!

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

إنطوانيت الميتة، إنطوانيت الحيّة

نابلس وعبود وأنا.