نابلس وعبود وأنا.

 نابلس وعبود وأنا

رداء الصلاة يحملُ مذاقاً آخراً حينما يلبسُ للرجاء، أحسُ بوهنِ حوضي امتداداً إلى ركبتيّ، لم تكن هذه المرة الأولى التي تبتلعُ بها معدَتي مشاعرَ الاغترابِ حتى لم أعد أستطعم شيئاً مبهجاً هنا، كنت قد غادرت غزة َإلى الضفة متذرعةً بحجةِ الدراسة، لم يكن والدي يعلم بالطبع أنني قد أتيت هنا من أجل رجلٍ يرفض مغادرة نابلس من أجلي فرحتُ أنا رحلت عن غزةّ لأجله، العبرة هنا ليست بمن تنازل وبمن لم يفعل، حقيقة إنني أرى أن مغادرة غزةَ إلى جهنم هو مكسبٌ بحدَّ ذاته، فكيف حينما تُغادر من أجل الحب ومساعيه؟

لم يمضِ سنةٌ على زواجي بعبود، كنت أعلم ظروفَه جيداً وأدرك أنه لا يشعرُ بالذنبِ حينما يترك إمرأتَه وحيدةً في البيت ليلاً من أجل إمرأة أجمل، لم أمقتْه يوماً على ذلك رغم أن أوجُ المشاعر عندي يبلغُ الفيضانَ حينما يأتي الليل، أنني أريده وأشتهيهِ ليلاً كل يوم ويأتيني هو -سامحه الله وعماهُ بحبي- نهاراً، حينما تكون المسؤوليات قد غطت على جانبي الأنثوي واتخذ الثوم مكاناً على ملابسي للأسف.


 أشعر بالأنانية الآن! كيف للحوار كله أن يدور بيني وبين ذاتي حول الشهوة والرغبة، وأنسى أن عبود، حبيبي عبود، يتردد الموت في اختياره كل ليلةٍ حينما يخرج لحماية المرأة الأجمل ويقول: أختاره أو لا أختاره؟ 

وأقف أنا في وجه الموت كل ليلة على سجادة الصلاة أو بساط علاء الدين كما تقول جوليا -ابنة عمي- ، وأرجو خالقَ الموتِ أن يترك عبود ويدعه يعود إلى البيت كي يضع رأسه بين نهديّ من فرط تعبه وأصحو أنا من نومي القلق، أقبّلُه أنا، وأضع شعره الناعمِ في فمي خصلةً خصلةً

 أن أرزق بالنوم القلق في وجودهِ خيراً من أن لا أنام البتة في مغيبه الأبدي.


الخامسةُ فجراً -بساط علاء الدين أوصلَ دعائي لخالقِ الموت-، أسمع هزةَ ثقبِ الباب والمفتاح يتحرك بداخله، حبيبي عبود عاد وسلّطت خُصُلاتِه النور على نومي القلق فاستيقظت، وفعلتُ كل الذي رجوته من الله سابقاً حينما جلست على سجادة الصلاة.

بدأ الروتين، أنا أستيقظ صباحاً على السابعة وعبود يتمسك بالنوم للثانية عشر ظهراً أقول: أنه يمنعني من مشاركة صباحاتيَ معه كما الليل، قاسٍ، إنه لرجلٌ قاسٍ.

يقاطعني هو: قاسي هادا العبود، وعشان هيك صحي بدري يفطر معك

أرد أنا بصوتٍ مستريب: أيعقل؟ عبود استيقظ مبكراً؟ أستحلفك بالله أليس لديك مهمة لتقضيها وتحتاج الإبكار؟ لست من أولوياتك أنا صراحةً!

ينظرُ لي هو بدوره بعتابٍ مبطن ويقول: ملاك! فلسطين أولاً أنتِ ثانياً، إن لم تكن فلسطين (المرأة الأجمل) موجودة لكنتِ أنتِ الأولى واستقرت القائمة عليكِ وحدك، وبما أن المرأةَ الأجمل لا تطلبُ شيئاً هذا اليوم، استيقظت لأفطر اللوز من عينيك وفخذيك، انهضي الآن وحضري ليَ الشاي وأنتِ، وزيدي السكر عليكِ وعلى الشاي، أحبُ الحلاوة!

إن كانت فلسطين إمرأةٌ حقيقية كنت قد قتلتك بالفعل، اثنِ على الله! قلت أنا

~

أرى أن حتى أشدَ رجال هذه البلد بأساً ورجولةً يخضع لإمرأة يحبها وتحبه في ساعة تتحول الشمسُ فيها ليلاً كي تضفيَ رائحة من الحميمية يفقدها النهار الجافُ بالعادة، إن كل هذه التفاصيل التي أحيكها وأحكيها بدقةٍ بالغة ليست سوى بوحاً عن الذي أشعر به وأفعله، كم تمنيت أن أخبر أحداً بكل هذا، كم!

استودعتك الله حبيبي، دير بالك على حالك -قلت صريحةً- ثم قلت بيني وبين نفسي: هزَّ ثَقبَ المفتاح عالياً حينما تعود، أريد أن أعرف مجيئك! رجاءً

خرج عبود مبكراً هذا اليوم، وقال لي أنه سيتأخر وسيعود عصر الغد -إن شاء الله ورغِب- ولمّا كانت هذه المرة الأولى التي يقرر فيها مفارقتي نهاراً قررت أن أعد الخطط كي أنشغل بنفسي نهار الغد وأن أفعل -حاجات نسوان- كي يعود ليلاً ويراني بأجمل حلّتي وأبهاها، قطعاً للأحداث، استيقظت مبكراً كالعادة وانشغلت بنفسي، تارةً أشغل أغاني روبي وأرقص عليها رقصاً فاحشاً، وتارةً أقلد نعومة راقصات ستينيات القرن الماضي، عبود يحب الرقص الشرقي ويحب أن أرقص له! ضبطت الرقصة تماماً، لا أحب العيوب وأحب أن أتقنَ كل شيء أقرر فعله، هذا انطباعه الأولُ عني وسيظل هكذا، لأنني كذلك بالفعل.

فستان أحمر، فستان زهري، فستان زرقة السماء، فستان قصير، فستان واسع، ماذا أختار؟ ضيق الخصر بالطبع! غالباً حينما أشكك بجمال أجزاء جسدي يبقى خصري المقوس الوحيد الذي لا أجرؤ على الطلب من قوقل أن يحلَ مشكلته، لذا اخترت فستاناً ضيقاً يبرز جمالي الحاد ويجعل عبود متيقناً أنني أفضل النساء وأحلاهم.

كحلةٌ خضراء، كحلة زرقاء، أستبعد الكحلة السوداء وأختار الزرقاء، لطالما أحبها على عينيّ فهي تنقِلُهما من لونٍ بُنيٍ محروق إلى لون بني فاتح،إنها عجائب المكياج ونعمتها على الإناث!

انتهيت، ظللت أحدق بالمرآة عشر دقائق طالبة إياها أن تنطقَ وتقول لي أنكِ أجمل من فلسطين، وأن عبود يحبكِ أنتِ أكثر منها،  ضحكت، ضحكت علي سخفي وتفاهتي، كيف لي أن أعتبر فلسطين نداً ليَ أصلاً؟ إن وطنيتي وانتمائي يمنعانني من التفكير بمثل هذا الهراء ولكن مشاعر الإناث وغيرتِهُن غلّابة وهذا ليس قولي بالمناسبة! عودةٌ إلى المرآة التي وظيفتها تكمن في الوصف وليس النَطق أساساً، رأيتها تلبسني فستاناً أزرقاً بارد اللون ضيق الخصر على جسديَ السُكريّ ولما شعرت من جمالي ما شعرت، ورأيت أن شعريَ اللولبيّ المجنون يحتل من ظهريَ نصفه وأن الكحلة الزرقاء كانت بالفعل رمت جزءاً من عتمة عينيّ ووهبتني خفة لونهما، علمت أنني أجملُ النساء وأحلاهن دون أن تنبس ليَ المرآة بحرف!


مدخل المفتاح يهتز، عاد عبود، وأخذ فستاني يجرّني جراً إلى الباب، وأخذت رموش عيني تتشكلُ حبلاً لتفتح الباب قبل أن يفعل هو وفعلت! 

شو هالحلاوة يا عمي؟

ليه وجهك كله سواد؟

كنت أعلم أن عمله خطير للغاية ولكنني لم أجرب أن يأتي إلي يوماً محملاً ببقايا عمله دفاعاً عن إمرأة أخرى، قال لي:

بعض الإجهاد والعمل، اتركينا منه الآن، أريد أن أعلم سر هذا التأنق والتلبق والتحلي والتباهي؟

الذي ينصت إليك يعتقد أنني لا أهتم بنفسي، فقط أردت أن أكون جميلة في الليلة الوحيدة التي تبقى بها بجانبي.

قبلةً على الخد كي أراضيكِ؟ 

يعلم هو أن قبل العالم كلها لا تنزع شوق الليالي عن قلبي، ولكن ما فائدة العتاب؟ ورددت عليه: قبلةً على الخد إذن.

وقبل أن تلامس شفتاه المتشققتين خديَ الناعم، صدح هاتفه بالرنة التي لا تطاق، وأخذني في حضنه على ركبته وبدأ بالاستماع للنبأ المجهول، بدأت أقرص فخذاي غضباً حينما سمعت أطرافاً من كلام الهاتف مثل "عبود اخرج الآن" ، "في اشتباه اقتحام".

وحينما أغلق مكالمته، نظر إليَّ خجلاً مع كل العلم واليقين أن البكاء سيجلس محل الكحلة الزرقاء، قاطعت الصمت الحزين الذي ساد قلبي وقلبه وقبلته على شفاهه قائلةً: بعرف، أستودعتك الله يا حبيبي.

خرج هو من الباب، ووضعت يدي على فمي صارخة بكل الذي يكمن في قلبي من مشاعر الاغتراب والحزن والشوق له ولأهلي ولغزة ولكل شيء فقدته في سبيل النومِ على كتفه فلا نمت على كتفه ولا عادت لي كل أشيائي الحبيباتِ، وأخذت أبكي أبكي أبكي حتى تخلت عيناي عن البني الغامق والفاتح سواءً ووضعت الأحمر، ونمت ساخطة عليه وعلى فلسطين وعلى كل النسوة التي تسرق حبيبي مني ممثلة بفلسطين حتى وإن كنت أدافع عنها في النهار، ولكن إن كانت ستسرق حبيبي مني ليلاً فلا أرغبها ولا أطيقها ولا أجعل لها في قلبي محبةً، أنني في هذه اللحظة على الأقل أملك الحق لكرهها والتعامل معها بقسوة مجحفة! 

عزمت العتاب، والنوم دون أن يلمس حوضي البساط الذي يربطني مع الإله، جهزت تختي وليس تختنا فأنا أريد إزالته من كل حبٍ قمنا به سوياً، إنني أكره كل -نا- في حياتي معه، أكرهه وأكره كل شيء يجمعني بالذي أتى بال -نا- 

المخدة؟ أين المخدة اللعينة بحق الإله ومريم وغزة الملعونة لو إنني لم أغادرها لكنت في حالٍ أفضل، ولكن كيف؟ ألست أنت التي كنتِ ترددين لا أكتب اسمي على اسم رجلٍ لا يعرف عن النضال شيئاً سوى الكتب؟ تحملي المسؤولية يا مدام الحب الثوري المسلح.

ونمت..

الثالثة صباحاً، المفتاح لا يهتز إنما الباب، أسمع الدقات والهمس العالي، ملاك ملاك ملاك! افتحي الباب يستر عليكي يارب تكوني صاحية، هذا ليس صوت عبود، من؟ يا ساتر!

من؟ قلت من؟ 

أنا علي صاحب عبود، افتحي الباب عبود مريض كثير.

عبود مريض؟ لقد خرج من البيت وهو في أحسن حالٍ ما الذي جرى؟ وحينما فتحت الباب رأيت الدماء يتوسد خديه اللذين كانا تحت ظل الرماد حينما أتى إلى البيت سابقاً لم يكن مريضاً كان مصاباً، يا الله لم أرفض الرماد كي ترزقني الدماء، يا الله إنها الليلة الوحيدة التي لم أطلب منك حمايته، أكان الموت انتهازياً حدّ الوقوف على زاوية غرفتي مشاهداً إياي طوال اليوم إن كنت سأرجو الله حماية عبود هذه الليلة أم لا؟ أفي اليوم الذي يلعب الغضب علي وينسيني الحب يموت عبود؟ نسيت أن الغضب هو إحدى خلائق الموت! أستحق الذي يحصل معي..

روحي عبود، حبيبي عبود، يا دكتور مشان الله بعيش؟ 

يرد الدكتور قائلاً: يا أختي هي ليست بالإصابة البليغة مجرد طلق بالفخذ لم تمس الشريان الحمدلله

وأعيد أنا السؤال مرةً أخرى وحينها يطلب علي مني أن أضع الحجاب على رأسي، كنت قد نسيت تماماً نفسي حينما رأيت دماءه، أتيت بمنشفة المطبخ على شعري، وخرجت.. على يده وضعت شفتاي، على روحي لعنت وعلى أنانيتي، وحينما فتح عينيه باباً لطمأنينتي أخذ بالابتسام والتربيت على رأسي، قائلاً: شو عامل أنا حتى يصير فيا هيك؟

وسكت، صمت خجلة أمام جراحاته البليغة، عبود ليس عديم المشاعر كيف لي ألا أعلم أنه حينما يغادرني لساعات طويلة أنه لا يشتاق؟ إنه يحتاجني كما أريده وإن كان جيداً في إخفاء ذلك فهذا لا يعني إنه ليس بواحدٍ من العشاق! 

لقد كانت ليلة قاسية، بدأتْ بالحزن على تركه لي وانتهت بالمصاب الذي أصابني قبله، أمسكت سجادة الصلاة وجلست ورفعت يدي طولاً حتى وصلت إلى السماء عند عرشه تعالى، رجوته أن يحميه وأن يقر عيني براحته، ألا يمنع قلبي من الإطمئنان حينما يأتي وألا يحرمني من متعة النهار بجانبه، ربَّ إن كان الموت ينتظر أخذه فأنا لست بموافقة، وإن إرادة إمرأة عاشقة تكسر الأرض وتفتت الذي تحتها وفوقها والموت معهم! 

يشفى عبود، يعود إلى الخروج ليلاً، أعود إلى الصلاة لأجله ولأجلي، وأكتب له مرةً قبل خروجه على رسالة ورقية:

ليفعل الموت ما شاء

 سآكل الموت في فمي 

أضع كحلتي الزرقاء

ترفض هي أن تأخذ الدموع محلَها إلا شوقاً لا رثاءً

ترفض هي أن تموت يا حبيبي

وتقول:

لأنت حينما تعلوني أنا نهاراً

كما يعلو الجبلُ النابلسيُ الشامخ سهل غزة

أحبك!


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

ملوخية مع أرز.

إنطوانيت الميتة، إنطوانيت الحيّة