الكنافة العربية.
الكنافة العربية
-المحاضرة الأولى [نشأة القضية الفلسطينية]، جامعة بيرزيت-
استيقظتُ ميعاد الثامنةِ تماماً، ومتبقىً على محاضرتي الأولى في يوميَ الأول لا شيء البتة، تأخرت!
بدأت أصرخ في مسكن الطالبات: تأخرت! في يومي الأول تأخرت! وبدأت بارتداء ملابسي كالمجنونة، ملابسي التي زرعتها تحت سريريَ الضفاويّ الجديد قبيل نومي ليلة البارحة تماماً كما يفعل الأطفال ليلة العيد.
يا خالة، يا خالة! صرخت بأنفاس متقطعةٍ وسألتها: "شو أحكي للزلمة إذا بدي أطلع ع جامعة بيرزيت؟"
ردّت عليّ مبتسمةً ومشفقةً: "قوليله بس جامعة"
طأطأت رأسي أنا حينها بإحترام مسرعٍ وبدأت بالركض، أركض.. أركض.. ومع كل ضربةٍ مسرعةٍ تُلقى على الأرض كان صدى صوت كلمة "شكراً" التي صدحت بها عالياً يبهتُ أكثرَ فأكثرَ فأكثر..
ركبتُ السيارة، وفوجئت حينها أنني أضطررت لدفع نفس المبلغ الذي يضعونه أهل غزة للذهاب إلى خانيونس، بيدَ أن المسافة بين مسكني وبوّابة الجامعة لم تكن بهذا الطول ولا تستحق هذه التكلفة.
قاعةُ مئةٍ وواحد مبنى العلوم.. ها هيَ ها هيَ! اللهم بارك ليَ خطوتي واجعل بيني وبين بؤسِ المذلة سداً. وصلت، نعم وصلت، وبدأت بترديد الدعاء الذي علمتني إياه أميَ الغزيِّة حينما يأكلني مأزقٌ ما
دق، دق، دق، لا أحد يفتح ولا أحد أيضاً يمنع قلقيَ من الجلوس استباحةً على خديَ بلونٍ أحمرَ محرَج.
"ادخلي.. الدكتور تأخر"، جملةٌ قالها أحد لا أعرف إسمه ولا صوته ولا شكله، ورغم غربته الكاملة عني إلا أنه صار فجأة الثلج الذي أذاب حريق خوفِ خدايْ، فأنا حينما أخاف أحمَّر!
دخلتُ، وقبل أن أسمح للطمأنينة المزيفة أن تضع وشاحاً يغري قلبي ويخدعه بدفئه سألت للتأكد:
" قاعة مئة وواحد صحيح؟ تخصص علوم سياسية وإعلان محاضرة أولى لدى الدكتور جودت؟"
أجابتني فتاةٌ تتوسدُ من الصفِّ الأول مقعداً لها: نعم، لم تضيعي البتة! تعاليّ واجلسي هنا إن أردتِ!
لطالما كنت فتاةً متفوقة تكره الجلوس في الصفِّ الأول وتعتبره مقعد المتملقين السقطة، ولكنني اضطررت، كما سأضطر الآن لسماع حديث الفتاة الجديدة! ولحسن الحظ، لم تسألني الفتاة عن اسمي واكتفت بالقول أنني محظوظة للغاية لأن هذا الدكتور يوصف بالصرامة! وكعادة الساسة جميعهم، الشفاعة لا تملك فراشاً لها في قاموس تصرفاته.
ابتسمتُ أنا لها، وبدأت بالتفكير حول بركة دعاء أمي وكيف له أن ينجح في كل مرةٍ، مرةً حينما ظننتُ أن فرداً من عائلتي الممتدة رآني وأنا أنشر الغسيل بلا غطاء على شعري، والمرة الأخرى هي اليوم!
بعد هنيهة، دخلت الشخصية الرئيسية حسبَ فلسفة الجامعة، دكتور المحاضرة وصل، ولم ينظر لنا البتة قبل أن يلمس كتاباً غليظ الجوانب ويكتب على لائحة القاعة الواسعة: "ربطةُ الفلسطينيين الأكثر تعقيداً" عنواناً للمحاضرة الأولى.
ساعتان، محاضرة من ساعتين، كنت منشدَّة الإنتباهِ إلى ما يقوله ويلوّح بيديه عنه، لطالما كانت فلسطين بالنسبة لي هي المبتغى والغاية، السبيل والهدف، والاتجاه الذي ترنو إليه رموش عينيّ وأعتقد أن سبب انتقالي من غزةَ للدراسة في بيرزيت يكمن في إيماني أن غزة فقدت نسيجها الفلسطينيّ حينما فقد الإنسان الغزيّ فيها القدرة على الخروج في مواجهاتٍ مباشرة مع الجنديّ المحتل، تماماً هذا هو السبب الذي أفقدني القدرة على التباهي والتماهي بالوطنية في غزة فهي في كينونتها ترى نفسها مستقلة، ما يدفع أهلها لفقدان شعور الوطنية واعتبار مثل هذه المشاعر سخافةً وعبثاً لا طائل من ورائه!
عودةٌ إلى جودت، أنهى السيد محاضرته وهو يدق كتابه السميك على الطاولة قائلاً: " يدخل الناس هذا التخصص وهم يعلمون أنهم لن يجدوا فرصة عمل بعد هذه السنوات الأربع وأعتقد أن تفسيري الأكثر عقلانية لهذه الظاهرة، أنهم مهووسون بالقضية حتى أنهم لا يستطيعون تمضية دقيقة من الوقت دون أن يحيطه شيء فلسطيني، ولذلك، أيها الجهابذة المهووسون أريد تكلفتكم بمهمة بسيطة وهي كتابة سطر واحد عن حال سكان الأرض الفلسطينية بعد النكبة.
ساعتين كاملتين من الصوت والسكوت وكتاب غليظ الجوانب انتهى بهم الأمر إلى واجب منزلي لا يتعدى السطر! أنا التي واظبت -لأبهر جودت وأمثاله- على تعلم فن كتابة المقالات مدة صيف كاملة، يا لها من خيبة حتماً!
خرجتُ من الحرم الجامعي إلى مطعم الفلافل مباشرةً، فأنا والفلافل عشيقان منذُ الطفولة، فطوراً غداءً عشاءً كان سندوش الفلافل حاضراً في معدتي أنا إبنة الحارات الشعبية
"عمو، بدي سندوش فلافل" قلتُ للمحاسب وناولته شيكلاً واحداً بأهبة الحماسة لأضع في فمي مذاقاً خارج غزة، نظر المحاسب إلى الشكل مبدياً علامات من الاستغراب وقال:
"سندوش الفلافل ذو الحجم الصغير بخمسة شواكل، وسندوش الفلافل ذو الحجم الكبير بعشرة شواكل"، احمرّ وجهي ونظرت إليه مطولاً، نزعت الشيكل الخاص بي من يده وغادرت، كنت محرجة وغاضبة للغاية وما زاد الأمر سوءاً هو لحاقه لي وصراخه "إذا ما معك مصاري المحل محلك يا عمي، اشتري الذي تريدينه مجاناً"
جعلتُ أمشي بخطوات مسرعة دون تحديق بوجوه المارة الذين استطاعوا التعرف على صاحبة المسألة على وجه التأكيد. وعند أول رصيف لزقاق خالٍ، جلست! جلست باكيةً على سندوش الفلافل الذي لم أستطع شراءه ولا يبدو أنني سأفعل في الوقت الراهن.
رجعتُ إلى السكن بحمرةِ وجهي التي ما زالت تقبع في مكانها منذ الصباح، كنت تعيسةً جداً وأبديت ردة فعل وحشية بالكامل إزاء يومِ الأزمات هذا الذي لم يسعفه دعاء أمي الملقّن، قلت لشريكتي في السكن ماذا حصل لي، وبدأت هي بالتوضيح أن الأسعار هنا هكذا، وطلبت مني أن أحمد الله لأن أرخص سندوش فلافل في البلد يبلغ خمسة شواكل
-أنا التي كنت أشتري واحداً بنصف شيكل وأتشرطُ على البائع وضع بطاطا كثيرةٍ عليه- سألتها مستهزئةً: "إذا كان سندوش الفلافل هيك، سعر الكنافة العربية بطلع عشرين ألف؟"
نظرت إلي وكأن هناك ما لم تفهمه وقالت: "ما هي الكنافة العربية؟"
رددت أنا بتجهمٍ: "كنافة معروفة، لا يعقل أنك لم تذوقيها يوماً!" ، ردت هي: "لا يوجد أي محل كنافة يعرف هذا النوع لأنني زرتها جميعاً، وحقيقةً، هذه هي أول مرة أسمع بنوع اسمه كنافة عربية، من الممكن أن تجديها في المحلات المشهورة رغم إيماني بضعف الاحتمالية!"
أردفت أنا قائلةً: "أسامح جهلك يا شريكتي وأعدكِ أن نجدها، فالكل يعرف رائحتها!"، قامت هي بلف يديها الفلاحتين وقالت:"محدش بعرفها، لا تجننيني! هلقيت باخدك ندور عليها وبعملها والله!"
رددت أنا بلا تردد: "إذن هيا!"
اختصاراً للحديث يا أمي، وصلتُ أنا وهي إلى إحدى المحلات الأصيلة وطلبنا رؤية المسؤول عن إعداد الكنافة هناك، ودون أي مهلة للتعارف سألته: "عمو، بدنا كنافة عربية"، ردّ علي:"أتقصدين كنافة نابلسية؟"، عدتُ أنا أقول: "لا، نريد كنافة اسمها عربية، ألا تعرفها؟" ردّ هو "عذراً، ولكن لا يوجد سوى الكنافة النابلسية" قالت صديقتي: "إذن طبقان لو سمحت!"
وقلت أنا عابسةً: " تقصد طبقاً واحداً فقط" وخرجت بعدها من الباب إلى الشارع بساقين واهنتين لا تقويا على المشي ولكنهما أيضاً لا يقويا على دفع أجرة الطريق من غزة إلى خانيونس كل مرة خرجتا إلى الشارع، لذلك ظللت أمشي حتى وصلت إلى السكن، وبكيت.. بكيت يا أمي..، بكيت حتى انتفخت عيناي، وعندما حاولت أن أنام لعنت بيرزيت واليوم الذي قررت فيه مغادرة الحارة والجملة التي طلب جودت منا كتابتها
ومع تورم عيناي العسليتان، استيقظت في الصباح الثاني باكرةً لأخفف تورمهما بوضع الثلج عليهما ولأكتب واجب جودت، سيما أن الصباح كان ناقصاً يا نهاية، هادئاً كثيراً يا أمي
أين بوكسة البطاطا التي يتوسل الحمار شرائنا لها! أين!
عودةٌ إلى واجبِ جودت، قمت بكتابته بالطبع ووصلت مبكراً هذا اليوم، وبدأ هو بدوره يفرز الأسماء عشوائياً كي يقول كل منا جملته، حتى نادى على إسمي!
رفعتُ عينيّ المورمتين وقلت له: "لكنني لم أكتب جملة، كتبت نصف صفحة!" فردّ هو: "وأنا أريد منكِ قرائتها، بصوتٍ عالٍ"
خرجت على منصة المحاضرة، وفتحت الورقة المبللة بالدموع والخرابيش وقلت:
"أما عن فلسطينيي عقب النكبة، ليست مخيمات اللجوء في وجهة النظري المتواضعة هي المشكلة بأكملها، أؤمن أن الفجوة الواسعة بين أهالي الضفة وغزة هي التي شكلت عقداً من الشوك على عنقي وعيني على مدى يومين سابقين لعلمي أنها مشكلة أسوء من قضية المخيمات بأكملها، فأنا طالبة من غزة جئت إلى بيرزيت بمنحة كاملة لا أعلم شيئاً سوى أن فلسطين دولة واحدة الكيان والدلالة لذا لم أفرط بالتفكير حول مدى انسجامي هنا. ولكنني بدأت اكتشف حديثاً بذعرٍ تام أن فلسطين لم تعد هي ذاتها فلسطين التي ترقص في حكايا الأجداد وكتاب الوطنية، إن هذه المتبقية ليست سوى فتات تنادى بالضفة الغربية وقطاع غزة، كلاهما دولتان وحكومتان وشعبان لا يجمعهما شيءٌ جوهري البتة!
وأتسائل كيف لمخيمات غزة أن تكون مبنيةً من الإستبس ولمخيمات رام الله أن تبنى من الرخام العالي؟ وكيف لنساء الضفة أن يمشين بصدرٍ أوله بارزٌ ونساء غزة حينما يلبسن بنطالاً ينهال عليهن سائق السيارة المار بجانبهن بالاستغفار وقول اللهم إني صائم؟ كيف للكنافة العربية التي لم أعلم سوى البارحة أنها خاصة بأهل غزة ألا تعرف رام الله مذاقها ولا تضعها المحلات المشهورة في قائمة الحلويات المقترحة؟
نحن نخطئ بالتفكير إن اعتقدنا أن المعضلة تكمن فقط في وجودنا في خيمٍ جعلت سقوفنا هي السماء، المشكلة ليست بهذه البساطة، لم تكن وستبقى، وإن أردت حضرة الدكتور أن أختصر الحال كله في جملةٍ واحدة، سأفعل طاعةً، وأقول:
أصبح سقف الفلسطينيّ هو السماء، ورام الله لم ترَ الكنافة العربية!
تعليقات
إرسال تعليق