البنفسج على ظهر بشار.. الأحمر على ظهر بشار

 البنفسج على ظهر بشار

 الأحمر على ظهر بشار 



  • نرجس.. 

تيتا شو مفرد النرجس؟ إذا كلن هوْلي وردات نرجس، هاي لحالها شو اسمها؟ وردة النرجوسة؟ نرجسة؟ شو اسمها لكان؟

  • ما بعرف يا تيتا والله ما بعرف، كم مرة صرت قايليتلك لا تحطي بتمك هيك إشيا؟ 

ياه، ضربة على الرأس قذفتْ إليّ من الماضي.. على البلْكونة المجاورة لنافذتي، زَينت جارتي إطلالات صباحاتها بزهر النرجس وهذا النوع من الورد بالذات يملك النصيب الأكبر من طفولتي، طفولتي التي قضيتها متنقلةً بين أحضان الشام، ولا أعني بالشام دمشق إنما أعني الشام كونها الشام، من قرن فلسطين حتى روافد بانياس، كم أشتهي الآن أن أعصر قطرات النرجس على فمي كما اعتدت، كم أشتهي أن أنتشيَ من حلاوة طعمه! لم أعلم أبداً سر تلك العصارة الحلوة التي تقطر منه، كل الذي أراه الآن من ذاك الزمان هو اللون البنفسجي، وللآن لا أعلم ما سر الحلاوة ولا مفرد النرجس.. لأنني..

أنقذيني أنقذيني، ما معنى فكّة بالإنجليزي؟ قالت أختي هيفاء. 

يا حبيبتي قولي له كرنسي، كرنسي بكسر الراء.. 

يا له من يوم شاقّ، لقد تنقلت منذ مجيئي إلى تركيا خمسة عشر مرة عددتها مرة مرة، وكرهتها مرة مرة، وبكيت على بيتي السابق في كل مرة، نعم.. ذلك البيت الذي أبكي منه عندما أدخله أول مرة رثاءً على البيت السابق، هو نفسه البيت الذي أبكي عليه عند الخروج منه في نهاية المطاف،  كعادة كل البيوت التي أدخلها، لا مستقرَّ لكِ يا ملاك.

يا الله، ما هذا البؤس؟ كيف لإبنة الباشوات، حفيدة ممثل الحزب، حفيدة رئيسة الاتحاد النسائي على كل نساء العرب أجمع أن تأكل الذل أكلاً كهذا! كيف لها أن تنام كل ليلة بأصابعَ منملّةٍ خيفةَ الاستيقاظ صباحاً على ثلاجةٍ بلا فطور.. ما الذي حدث؟ وماذا فعلت كي أتجرد من كل مناصبي الفخرية؟

كنت أستمتع بمذاق النرجس وطعم مثالية الحياة حينما حرمت من كل هذا، ما الذي حدث؟

أعاقبني النرجس؟ أيعقل؟ عودةٌ إليه.. 

شكل يوم التمتع بشهدِ النرجس ذاك اليوم الثاني عشر ليَ في سوريّة، كنت منبهرةً بالطبيعة التي حرمني منها الاكتظاظ السكانيّ في غزة، أنا التي كنت أظن أن حديقة البيت في غزة هي أجمل خلائق الكون وأحلاهم ذرفت عينايَ دهشةً حينما رأيت بانياس الساحل

وهي مدينة نصفها يسمى بِبانياس الجولان وهي محتلة (بانياس الجولان)، أما عن الذي أتى بي إلى هنا؟

اختصاراً..

جدتي سوريّة الأصل -والدها سوريّ وأمها سوريّة-، تدحرج فستانها إلى ساحل غزة حينما قابلت جدي الغزيّ في مكتب التوظيف في دمشق وتزوجها وعاشا في غزةَ منذ صيف الستينيات، ومع بداية الألفية ارتأت هُيام -جدتي-  أن لوظيفتها عليها حق، وأن حالَ غزة الثقافيّ ينحدر من الأسوأ إلى الأسوأ.. ابتداءً من رجالها الذين يلحقون نساء البلد ذوات الشعر المنسدل بحمض حارقٍ على وجوههن لإجبارهنّ على تغطية شعورهنّ، وانتهاءً بشيوع نهج السلف والإسلام السياسي، قررت آنذاك العودةَ إلى سورية لتستكمل نشاطها السياسي والنسوي الذي لا يتناسب مع العرق المتشدد الذي بدأ يطفو على السطح في غزة، ساحبة إياي معها في سن الثالثة عشر من عام 2007..

بدأتُ بارتياد المدرسة بعد امتصاصي لبنفسجية النرجس بأسبوعين، استيقظت الرابعة صباحاً.

تيتا، يا تيتاااااااااااااااا

أين زيي العسكريّ؟ 

نعم، لم يكن الزيّ في -سورية المستقلة- مريولاً أخضرَ اللون تافه الملامح كما في -فلسطين المحتلة- إنما كان زياً عسكرياً، جميل الطلة، مصممٌ خصيصاً ليضفي على طلابه ملامحَ واسعة من الجدية والهيبة، وأرى أن فلسطين تفتقر لهذا النوع من الجدية وهذا النشاط من عسكرة الطلاب مع أنها بحاجة إليه أكثر من سورية ولكن العتبْ على أوسلو.. عموماً كنت قد بدأت في البلوغ وكانت ملامح -الصبية الحلوة-  قد بدأت تنسكب على جسدي وعلى وجهي، تماماً كما قالت جدتي لأختها إيمان.

ها ها، ها هو زيُك المدرسيّ -قالت جدتي

يا تيتا الله يرضى عليكي، ليس بزيٍ مدرسيّ، إنه زيٌ عسكريّ، كيف تسمينه بهذا وأنتِ تدرين أن الشق الآخر من بانياس هو محتل يا تيتا أين الوطنية؟ 

ضحكت جدتي وأمسكت غرتها التي ينام فيها بعض الشيب ووضعتها وراء إذنها وقالت، يا آنسة وطنية، هل حفظتي النشيد الوطنيّ؟

لهثت سريعاً وقلت: نعم نعم، حماة الديار عليكم سلام أبت أن تذلّ النفوس الكرام

وقاطعتني وقالت: حفظتي الشعار المدرسيّ؟

نعم يختي؟ رددت عليها، شو هاد كمان؟ 

غطت وجهها بيدها وضحكت ضحكة جعلت وجهها أحمر، وقالت رددي ورائي إذن:

حينما تقول لكِ المعلمة: أمةٌ عربيةٌ واحدة

اصرخي بأعلى صوت وردي: ذات رسالةٌ خالدة

وستسألك حينها: أهدافنا؟

ردي بصوتٍ عالٍ يا ملاك وقولي: وحدة، حرية، اشتراكية

وستقول هي: رفيقي الطليعي، كن مستعداً لبناء المجتمع الاشتراكيّ العربيّ الموحد والدفاع عنه..

وارفعي يدكِ للأمام حينها وقولي: مستعدٌ دائماً

نظرت لها باستغراب كامل، وتفحصت تجاعيدها والشامة التي تتخذ لها مقعداً أسفل هدبها، وقلت: 

لم أفهم شيئاً!

وجاءت خالتو إيمان وصاحت: يَمَا ييْ (بلهجة أهل حلب وتعنى يمْا)، يا خانوم، اشبيك؟ بس تعود البنت من المدرسة بتشرحيلها الشعار، هلأ اكتبيلها إياه ع ورقِة، ما تكوني متوقعيتها تفهم كل هاد يعني!

والله إنما هي كانت مجرد محاولة لاستذكار الماضي، أتذكرين يا إيمان؟ أخْ.. -ردت جدتي.

وظللت لم أفهم شيئاً، وربطت شعري في جدولتين وخرجت..

أمةٌ عربية واحدة.. -صدحت المعلمة.

أين هي الورقة؟ يا رباه، لا أريد أن ألفت الأنظار، الورقة مبتلة، سلام قولٍ من ربٍّ رحيم

مرت بجانبي معلمة تلبس تنورةً ضيقة أسفل الركبة، وقالت: لمَ لا ترددين الشعار؟

قلت لها: لم أحفظه..سأحفظه غداً..

نظرت إليّ متوجمةً: عم بتمزحي معي أنتي؟ شو الك تلتعشر سنة ما حفظتيه للشعار؟ ولا كاينة بمدارس الأمريكان وأنا ماني دريانة؟

حينها خفت، وبدأت أبكي، أبكي، وتفاجئت المعلمة من ردة فعلي المبالغ بها، وساقتني إلى مكتب الإدارية التي بدت حيرى لا تعلم الذي عليها قوله أو فعله، وبدأت تلمز المعلمة بعينيها، ولا أعلم حقاً إن كانت تلك لمزات غضب أم تهديد أم دفعة لكي تجعلها تعتذر لي، وحينها بادرتُ بالقول:

يا أنطي أنا فلسطينية، هذه أول سنة لي هنا.. -قلتها بشهقات متلاحقة

أنطي؟ عم بتشتميني لكان؟ -ردت المعلمة

-  لا حول ولا قوة إلا بالله، أنطي تعني معلمة، أنا أعتذر! 

- حقك على رأسي، اذهبي للصف الآن وعودي غداً بالشعار مغروساً في لسانك! 

- حاضر، قلت لها وانصرفت..

يا إللهي، مدارس سورية لا تختلف عن مدارس غزة إطلاقاً، المعلمة السورية التي تلبس ملابس ضيقة وتضع طناً من المكياج هي نفسها التي في غزة، وكلتاهما لا تستطيعان تمرير صباحاتهما إلا بجعلِ فتاةٍ تبكي!

~

ملاك، خذي باقي الفكة، تفضلي. -قاطعت هيفاء سيل ذكرياتي.

- شكراً، يجب عليَّ كتابة مقال جديد كي أحصل على راتبي، وترجمة خمس ورقات بحثية كي أدفع رواتباً للكهرباء والمياه والانترنت وأجار الشقة.. فهم موظفون أيضاً، لقد كبرت وصرت مديرة على موظفين يا هيفاء، اضحكي! 

- أحلى كوميديا سوداء بالعالم، بمَ كنتِ تسرحين للتو؟ حبٌ جديد؟ رجلٌ ضعف عمرك مثيرٌ؟ من جديد؟ 

- لا، كنت أفكر بصيف 2011..

- مرت عشر سنوات خيتا، أنا سأنام، ولا تنتظري مني أن أسمع شيئاً خصوصَ تلك الأيام، رجاءً! 

- طيب عن شو أكتب المقال الجديد؟ 

- أكتبي عن الاستلاب الثقافي

- لا أريد، مللتُ طعم التنظير والفلسفة السياسية النظرية، أريد شيئاً له طعمٌ على أرض الواقع، شيئاً أحسُه! 

- تصبحي على خير حبيبتي، من ذا الذي يعجبكِ أصلاً! ردت هيفاء. 

خلدت هيفاء إلى النوم وتركتني أعيش سهر المقالات وحدي

يا ربّ، ماذا أفعل؟ ماذا أكتبْ؟ 

سأفتح على الموقع وأرتجل، هينا نرتجل، هينا نجيب، هينا نزبط أحلى مقال يا أحلى ملوكة.. وجلست أغني وأردد تلك العبارات وأكتبها في المقال، بحنيةٍ ومتعة، لقد مرّ وقت طويل منذ أن دلعت نفسي وغنيتُ لها، تيتا كانت ستغني لي كل يوم، لم تكن ستدعني أمارس القسوة على نفسي وأن أنام دون أغنية تربّي النرجسية في قلبي، أنا دلوعة الكل كيف أنام بلا أغنية عن ملوكة وحدها؟ 

كيف ماتت تاتا؟

صيف 2011..

-هذه المرة سأشتري سنتيانات بوش أب، لم أعد صغيرة وأصبحت في سنة البكالوريا، أي سنتي الأخيرة في المدرسة، تاتا لن تعارضي صحيح؟ أريد أن أكون كباقي زميلاتي! 

-سنشتري لكِ سنتيانات بوش أب، وسنشتري لكِ كتاب قضايا نظرية في الاشتراكية والرأسمالية، وستقرأينه، وستلبسين البوش أب، وكلاهما أمرٌ. 

رددت عليها ببريقٍ متلهف: سأنفذ الثاني حتماً!

وبينما كنا نتجادل على اللون الذي أريد، سمعنا صوت مضارباتٍ في الشارع، وشعارات مثل من الجد للرئيس الحكومة حكومة جواسيس، ويلعن روحك يا حافظ، وإلى آخره.. 

لقد شهدت البلد في أواخر عام 2010 توتراتٍ كثيرة، وحركة وعيّ شملت جميع الأركان، لقد علم الناس أخيراً

أن الاشتراكية هنا مجرد اسم، وأننا لسنا بأمة عربية واحدة، وأن المراقص هنا هي أكثر من عدد الجامعات، وأن القومية هي زيف، وأن خروجك لتلعن روح حافظ وابنه هو أمرٌ واردٌ، لكنه مفاجئ وشجاع للغاية!

هزّت جدتي يدي وقالت دعينا نعود إلى البيت، اشترينا الذي أردت وركبنا سيارة أجرة، لم يهمني منظر الاحتجاجات المكون من الفئات القليلة، هو منظرٌ اعتدت عليه منذ مجيئي إلى سورية، إنما كنت مشغولة بالضحك إثر مداعبة أصابع الفرح لقلبي لأن جدتي نسيت شراء الكتاب، حمداً لله! 

تيتا، ما رأيك بالذي يحصل؟ -سألت جدتي. 

ردت هامسةً: قلتُ لكِ لا تتكلمي بالسياسة في الأماكن العامة، كما أنني أعمل لدائرةٍ حكومية لا تسمح لي بالمعارضة! سكري الموضوع. 

وضعت يدي على ذقني ورمقتها بنصف عين وقلت لها: صلاتك يا نبيّ! 

~

صباح اليوم التالي:

"دمُّ الثوار تعرفه فرنسا وتعلم أنه نورٌ وحقُّ

وللحرية الحمراءِ بابٌ بكل يدٍ مضرّجة يدقُّ"

ملاك، تمالكي أنفاسَك، وأحفظي النص بحماسةٍ وقوة كي لا تنسيه، لا أريد من طاقم الوزارةِ أن يحرمكِ من التقدير الذي تستحقين!

مرة أخرى، هياْ

ذاك اليوم، كنت في أواخر البكالوريا وكان عليّ حتماً الدراسةِ بجد! وكنت أجهز نفسي لامتحان نهائيٍ تجريبي، كي أختبر قدراتي، وحفظي للمنهاج.. وعندما أصبحت الساعة السادسة تماماً، بدأت ألبس زيي العسكريّ -نعم لا زال عسكرياً- كنت أخفف من حدة جديته بافتراس نفسي على المرآة، البوش أب وضع الزي على جسدي إلى منحىً آخر، وجعلني أقول: "لستُ واثقةً إن كنت أملك الوجه الأحلى في الكون، ولكنني أملك الجسد الأحلى وهذا يكفي!"

تاتا، أنا مغادرة، ادعِ لي، سلام! قلتها وأنا أقبل خدها وهي تحمل صحون الإفطار في يدٍ وتغلق روْبها بيدٍ أخرى حينها صاحت: والإفطار؟ 

آسفة تاتا، لقد مثلت أنني لم أسمعك واضطررت الهروب! -تمتمت بيني وبين نفسي.

أما الآن يجب علي الذهاب إلى مكتبة نابلس الصغرى لأحصلّ الدوسية التعليمية، والطريق يبدأ من هذه الناحية..

وضعت السماعات على أذني، وبدأت الاستماع إلى -سمرة وأنا الحاصودي- ومشيت كأي فتاةٍ تدخل زقاقاً خالٍ، ترى حجارةً أمامها فتقذفها بقدمها إلى آخر الزقاق، وتضحك على قوتها الرائعة في إرهاب حجر صغير مثل هذا، عاشَ الشر! 

وحينما وجدت نفسي في بداية شارعٍ رئيسيّ، لا يحتمل من الفتيات سوى جديّتهن وأدبهنَّ، كان لزوماً علي أن أتوقف عن اللعب بالحجارة ولكن، نشوة الشرّ والتفوق على الكائنات الأخرى منعتني، فبقيت ألعب بالحجارة وأقذفها وأضحك، غريب! لم أجلب أنظار أحد ولم -يلطش- أحدٌ كلمةً تُجاهي، أين أنظار الناس الذين يملؤون الشارع تتجه؟ من تلك التي سرقت الأنظار عني؟ لم أكمل تساؤلاتي حتى أحسست بألم في جانبي الأيمن، كنت في مرمى كبير من تدافع الناس، رجال ونساء وأطفال وشعارات من القماش مخطوطة بلونٍ أسود، وصورٌ لشباب مكتوبٌ فوقها أشياء مثل نريد القصاص وأين أخي؟ وأغلقوا مسلخ تدمر..

أين مكتبة نابلس الصغرى؟ سألت رجلاً ما، وردّ علي بنظراتٍ مريبة: في بيتي!

بصقت في وجهه، وقلت له: لك العمى، استحي على شيبتك!

أوقفتُ إمرأة هذه المرة، التي يبدو أنها من المتسولين، ولم أكمل سؤالي حتى رأيت ضباباً كثيفاً عم المكان، وسمعت صوت صراخ بجانب شتائم صريحة، انتابني الفضول، رأيت شاباً يغطيه دماء هطل عليه من غيومٍ رمادية تقف آخر الشارع، كان الجنود يقذفون رصاصات عشوائية، والناس غاضبون، وأنا غضبت أيضاً! كيف لهم أن يقتلوا الناس هكذا كالعصافير البريّة؟ 

وحاولت مساعدة الشاب، وحاولتُ المشيَ معهم، وحاولت التقدم، وحاولت الصراخ، وحاولت لعن الأسد، وحاولت -لأول مرة- أن أطالب بالذي أقرأه في الكتب التي تشتريها لي جدتي، أردت -لأول مرةٍ أيضأ- اشتراكيةً حقيقية، أردت حريةً حقيقية، أردت حكومة حقيقيةً! وبدأت أصدح بالشعارات معهم:

يا بشار يا جبان، خذ كلابك عالجولان، يا بشار يا جبان، خذ كلابك عالجولان! 

وحملني حينها رجلٌ على كتفه، وصرخت: شو طالب يا دكتاتور؟ شو طالب يا دكتاتور؟ اجاك الدور يا دكتور!

 والكل يردد من ورائي: اجاك الدور يا دكتور..

~

خذ كلابك عالجولان قلتيلي؟ قصدك أني كلب؟ -سألني ضابطٌ في المخفر بهدوء.

أمسكتُ طاقيتي وغطيت بها وجهي، ليس خجلاً إنما خوفاً، كنت مرتعبةً حدَّ أن قلبي بدأ يقفز من قلة النفس وشهقات بكائي المتلاحقة، لم أرد عليه، وكررّ هو السؤال مرة أخرى بصراخ مع كلمة -وليه-، ثم قال:

أنا أحب الفتيات الصغيرات، الفتيات كاللحم، كلما كانوا أصغر سناً كلما كان مذاقهنّ أجود، أتعلمين ما الذي يمنعُ طفلةً مثلك أن تنام على فراشيَ الآن، وأن أمارس معها أقسى الأساليب؟ وأن أجعل جسدها متورماً؟ 

اقتحمت جدتي المخفر وبدأت الصراخ: ملاك، أين ملاك!

همس لي بصوت منخفض مشيراً إليها وقال: لأنكِ حفيدتها..

خرجنا من المخفر، كنت قد وضعت يدي الإثنتين على قلبيَ تاركة فمي مفتوحاً طيلة الطريق، لم أسمع من كلام جدتي وصراخها شيئاً، كان منظر الموت وتهديد الضابط وتخيلاتي القاسية عني وأنا ميتة على فراشه بجسدٍ كله كدمات نصفه محروق بأعقاب سجائره كما قال يسيطرون على كل حواسي.. 

لم أذهب إلى المدرسة في اليوم الثاني، ولا الثالث، ليس لأنني كنت مصدومةً من قذارة الحكومة وحسب، بل لأن الوضع لم يسمح

لقد جنّ جنون الأسد، كان يقتل الكثيرين ويسجن الكثيرين حتى وإن لم يرتكبوا شيئاً، كانت وسيلته في إجهاض الثورة -قبل أن ترى النور- هي نشر الذعر وإخماد الناس وتقطيع الثوار إرباً إرباً. 

بعد أسبوع، ورغم إحساسي الموشّى بالخشوع وجلال الموت وهيبته، اضطررت الذهاب لأنني على مشارف انتهاء السنة، خرجت من البيت مع جدتي التي أصرت أن توصلني بيدها خوفاً علي من -الأجندة الخارجية- كما يسميهم بشار، وكلما كنا نمرُّ شارعاً فيه تجمهراً يسب على بشار ويعارض النظام، كانت جدتي ترفض تماماً دخوله، وترى أن استنشاق نفس الأوكسجين الذي يدخله أولئك الرجال على صدورهم هو ضربٌ من التهور يمكن أن يلقي بنا إلى القبر، أو أسوأ، إلى السجن!

وصلنا أخيراً، ودّعتها ودخلت، ولم يأخذ مني الأمر وقتاً طويلاً حتى استطعت التعرف على الحزن الذي دُهن على وجوه الطالبات. 

 إحداهنّ كانت تبكي..

ما بك؟ لمَ تبكين؟ ثريا أنا أتكلم معكِ أجيبي! -قلت لها.

ردت علي: أتذكرين أبيَ المفقود؟ أمي دفعت ملاييناً لكي ترى جثته، وعندما دفعت آخر حفنة من المال ملكناها لأجل رؤيته ودفنه بشكل لائق فوجئَت أنها ليست بجثته، إنما جثة حصان، لقد خدعونا يا ملاك، الكل يكذب علينا..الكل..

~

  • في الخلفية، الشعار المدرسيّ والجميع يردده، وتقفُ أمامي فتاة الكشافة ممسكةً لصورة بشار وأبيه وابنه  -


شو؟ مش من مقامك ترددي الشعار ست ملاك؟ ولا لسا ما حفظتيه من الصف الثامن؟ -نفس المعلمة، نعم نفس المعلمة.

لا أريد أن أقدس اسم من يقتل أبناء شعبي ويظن أن دمائهم لعبة فقاعات ينفخها ويفقعها متى يشاء! -رددت أنا.

نظرت إلى باستنكار وانتظرت حتى انتهى الشعار، ذهبت إلى المديرة مع طقطقة كعبها المشؤوم والمُصاب بالغيظ، همست لها في أذنها كل الذي لا يطيب لي، ثم جاءت هي والمديرة وقالت: المؤسسات التعليمية لا دخل لها بالسياسة، لذا مرةً أخرى فلتضعي ثأرك جانباً وترددي ككل الطالبات.

ضحكت أنا بتهكمٍ وقلت: لا دخل لها بالسياسة؟ سيدتي لم تمر عشر ثوانٍ منذ أن انتهينا من ترديد الشعار الأكثر سياسية في تاريخ المدارس حول العالم، وإن لم تسمعيه مثلما فعلتُ أنا ففصلّي القماش على جسدي، وحينما تريْ ماذا ألبس، لا تقولي لي أنَّ السياسة ليس لها رأيٌ في المقاعد التعليمية! ولعلمِكْ، أنا أكرهكم جميعاً وأرى أنكم الجزءٌ الأكبر في المشكلة التي نعيشها!

ريثما انتهيت من كلامي، رأيت الغيوم الرمادية تجتاح المدرسة، لقد امتلأت المدرسة بالجنود والعساكر والذين هم -من فوق-، كما يناديهم أهل البلد. 

هزتني المديرة بكتفها، وأرسلتنا إلى الصفوف جميعاً 

ووصلت  لنا الأنباء بعد حينٍ في قاعة الصف أنهم أتوْا من أجل توعيتنا لمقاومة الفكر اللاوطني ومحاربة المندسّين -لا أعلم من هو المندس صراحةً- ونادونا جميعاً إلى الساحة الرئيسية، وأمسكَ ضابطٌ الميكرفون، وبدأ يصرخ بشعارات الوطن وأن هذه أزمة ويجب علينا مقاومة الخونة..لم أستمع إلى شيء إنما كنتُ أمررُ نظري على وجوه الفتيات اللواتي لبسن حواجباً متزمتة، عيوناً جاحظة، أيادٍ مقبوضة، وشعراً..شعراً لم يحسه المشط منذ بداية الثورة..

وحينما انتهى، نادتني المعلمة لأغني نشيد حماة الديار بصوتيَ العذب، وطلبت مني ألا أعارض، وأن أنتبه لكل حركة، ولم أرفض!

خرجت على المنصة، صفٌ من الرجالِ المبتسمين أمامي الفخورين بي والمنتظرين منيَ الغناء، رقَّ قلبي! وخفت!

قلت الجنود ضحايا مثلنا، لن أفتعل ثورتي التي تخيلتها عليهم وسأغني بسلام، وبدأت:

حماة الديار عليكم سلام.. 

-صوت ضحكات الجندي آخر الساحة يضحك-

 علامَ يضحك؟

عدتُ لإكمال الأغنية، اجتاز بصري صف الضباط لأنظر إلى وجوه الفتيات، أسىً.. كيف تغافلت عيناي عن أساهم وأعطيت لابتسامات الضباط أولويةً عليها؟ كيف؟ 

ابتساماتكم هي جزءٌ من يأسنا، حزننا، قهرنا، موتنا، إنها هي جزءٌ من ضحكات ذلك الضابط الذي هددني في المخفر، إن ابتسامتكم هي جزءٌ من كونكم ضحايا أيضاً للنظام، ولكن أن تكون ضحيةً لا يسمح لك أن تكون جانياً، أنا ضحية، أنا ضحية، ولن أظلم أحد، أنا ضحية، أنا ضحية، ولن ألعق سباطكم، أنا ضحية، أنا ضحية، يسقط بشار الأسد! 

لم تكن هذه أفكاريَ اللحظية، كان كل هذا ما صدحت في وجوههم..ربما لم أسمع شيئاً بعد ذلك سوى الضجيج، وصوت فتيات يصرخنّ بعبارات مثل "انصرفوا برا"، "لعنة الله عليكم".

~


جدتي ماتت قهراً.. 

 جدتي ماتت في قبرٍ أمام معتقل تدمر -سيء السمعة- الذي نمت فيه خمسة سنين تحت ضباطٍ أحالوا جسدي إلى كيسٍ مليءٍ بالكدمات نصفه محترقٌ بأعقاب سجائرهم. 

ولمّا خرجت، لم ألحظ جدتي ثانيةً، لم أعتصر النرجس في فميَ ثانيةً، ولم أرى سوريّة ثانية.. 

حُرِقت حقول النرجس

حُرِقت سوريّة

ماتت الثورة

ماتت جدتي

جسدي احترق

كلنا، أصبحنا لون بنفسج النرجس

كلنا، أصبحنا لون حُمرة الدمِّ 

كلنا، كنا يوماً نتسابق التسلق على الظهر الذي دفن جدتي قهراً.. 

وسنبقى..


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

ملوخية مع أرز.

إنطوانيت الميتة، إنطوانيت الحيّة

نابلس وعبود وأنا.